Sunday 23 March 2008

فـلســفـة الأسـاطـير - المنظور الشريعتي



اعتادت البشرية منذ بزوغها على اختلاق الاساطير، و لطالما كانت هذه الأساطير مرآة للحضارات السابقة، و منبع للتاريخ القديم، لطالما عدها الكثيرون كأضغاث الأحلام، لا يعيرونها أي اهتمام، و يمرون عليها مرور الكرام، من غير التأمل فيما ترمز إليه تلك الأساطير.

تنقسم الاساطير الى اساطير ذات أسس حقيقية، لكن يتم تغييرها بحيث تصبح نماذج كاملة لا تشوبها شائبة، و أساطير مختلقة كليا كالآلهة المتعددة للإغريق.

إن النظر في الأساطير الماضية لا يدع مجالا للشك أنها انما تمثل الغلو في تمثيل الصفات التي تحتاج اليها البشرية. فالحياة الواقعية للبشر تصطدم في كثير من الأحيان بجميع أنواع التعدي على الخير، و تحفل بالشرور و الكذب و الخيانة، لكن بصيص الأمل بالأخيار يبقى حياً، الى أن تصطدم الشعوب مرة أخرى بأن أفضل نماذجها الخيرة لا تستطيع مجاراة حياة الآخرين بخيرها، و لاتعبر عن النموذج الكامل المضيء للإنسان الجميل الخيِّر القوي الشجاع الذكي و الى آخر هذه الصفات.

فتبدأ الشعوب و الحضارات باختلاق ما ينقصها و ما يشبع غليلها من أساطير تعطيهم بوارق الأمل و هواجس الحرية و القوة، و لاختلاف الشعوب و تنوعها و تعدد تواريخها، تقوم كل حضارة بصنع النموذج المناسب لها، فتصنع الحضارة الصينية نموذجها بنفس جنسها، و الحضارة الشقراء تصنع أساطيرها شقراء، و الحضارة السوداء تخترع أبطالا سود، و الحضارة المهتمة بشؤون العلم تخترع قارة "اتلانتس" العظيمة التي غرقت بفعل تجاربها العلمية.

على أي حال، تمثل الأساطير معاني الشجاعة و البطولة و الحب و الوفاء و التضحية، فينهل الناس منها تلك المعاني، و يستنجدون بأبطالها، و يتمثلون شعرا بمحبيها، لأنهم لا يجدون ذلك الحب الطاهر يعيش بين جنباتهم من غير شوائب الشهوات و المصالح و الأنانية.

تغطي الشعوب بذلك نقصها، و تنهل منه كمالاتها، لكنها في نهاية المطاف أساطير، لا ترقى الى مستوى الحقيقة، لذا صارت الحضارات الى مآلها الحالي، حيث الأساطير أضحت خافتة البريق، و قصصاً للعجائز و الجهلة!

لكن الحقيقة هي أن الشعوب في أيامنا هذه لم تعد تنشد آداب أساطيرها لا لعدم حاجتها الى الكمالات التي تختلق فيها، بل لأنها غيرت نمط حياتها، و حدود تفكيرها أضحت بالمادة و المصالح و نيل القوة و السيطرة و المال، لقد كان الانسان في بداياته أكثر تأملا في الكون، و اقل استنزافا للطبيعة، و أعمق دراسة في وجودها؛ لذلك كان أكثر حاجة الى معاني الكمال.

كان الانسان يفتقد الى ما يسهل له الحياة كما في أيامنا، لذا كان يشعر فعليا بالحاجة الى العون و السداد، بينما اصبح الانسان طاغوتا لمجرد تسهيل الحياة له، لكن لماذا بمجرد أن يكتشف الانسان حقيقة علمية جديدة يشعر بصغره في هذا الكون؟ و يطلب العون و السداد من جديد؟ ذلك لأنه تذكر الافق الواسع الذي ينتظره خارج حدود الحياة اليومية و هموم العمل و المال و السلطة.

فلطالما كان أصحاب المعاناة و خشونة العيش أكثر انتاجا و اقوى روحا من المتنازعين على السلطة و الأموال، و ذلك حاجة منهم لما يملأ نقصانهم، فكانت الاساطير إحدى أساليب طلب العون و السداد.

و ما الله تعالى بغافل عن البشرية، فالبشرية في حاجة ماسة و مستمرة للنماذج التي تعبئ روحها بالخير و القوة و التضحية، لذا، عندما أرسل الله سبحانه و تعالى الى البشر رسلا مبشرين و منذرين، كان هؤلاء في مستوى الاساطير في طهارتهم و وفائهم و حبهم و كمالاتهم، لكنهم مع ذلك في مستوى البشر في حياتهم و حاجاتهم و تعايشهم، فكان الإقتداء بهم أوقع من الاقتداء بالاساطير التي تحارب تنينا أو طائرا عملاقا، القرآن الكريم عندما يتحدث عن النبي و أهل بيته يقول

إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا


فكانوا بإرادة الله التي لا تحجزها إرادة طاهرين بجميع كمالاتهم، و يقول القرآن كذلك

وما ارسلنا قبلك من المرسلين الا انهم لياكلون الطعام ويمشون في الاسواق"


فهم بشريون كغيرهم، لذلك كان الاقتداء بهم سهلا ميسرا و كان البشر مدعوون الى مائدة الكمال من دون الاساطير الكاذبة

.

No comments:

Website counter